اقرا ايضا
إشكالية النص وفرضيات القراءة
ظهرتِ القصَّةُ القصيرةُ بمفهومها الحديثِ في الأدبِ العربيِّ منتصَف القرنِ 19م وازدهرَتْ إبَّانَ القَرن 20م ، وهيَ بذلكَ فنٌّ مُستحدثٌ ظهرَ نتيجةَ التَّلاقُح مع الثَّقافةِ الغربيَّة والتَّرجمةِ عنْ آدابِها وانتشارِ الصِّحافة. ويتميَّزُ هذا الفنُّ بخصائصَ أهمُّها: وحدةُ الانطباع، والكثافَة الإيحائيَّة، ودقَّةُ التَّصميم، والاختزال. والقصَّة القصيرة في أبسط تَعاريفِها “فنٌّ حكائيٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوارُ والسَّرد، قليلُ الكمِّ، ويلتقط الومضة المشرقة وينقل اللّمحة الخاطفة، ومن روَّادها في أدبنا الحديث يحيى حقِّي، وعبد الكريم غلاَّب، ومحمود تيْمور وزكريَّا تامر ويوسف إدريس. وبعدَ أن نضجَ فنُّ القصَّة القصيرةِ واستَوَى على سُوقه وصار قابِلا للتَّناول والمقاربة النّقديّةِ، ظهرت دِراساتٌ تعرفَ به وتبرز خصائِصه وأجناسَه وترصد تطوُّرِه، ومِن أبرز نقاد القصة القصيرة شكري عيَّاد، وصلاح فضل، ومحمد برادة، وسعيد يقطين … ويعدُّ محمد عزّام صاحب النص ممن عَرَّفُوا بفنِّ القصَّة واتِّجاهاتها الفنيَّة في عدَّةُ مؤلَّفاتٍ، منها ” البطل الإشكاليُّ في الرِّواية العربيَّة المعاصرَة “، و”اتجاهات القصَّة المعاصرة في المغرب ” الذي اقْتُطِفَ النَّصُّ موضوعُ تحليلنا. فما القضيَّة التي يعالجها؟ وما طرُق عرضِها؟
يتسم عنوان النَّصِّ ” مميِّزاتُ القصَّة القصيرةِ واتِّجاهاتُها” بالطُّولِ، ويتكون من جزْئين يفصلُ بينهما واو العطف، ويُشكِّلان جملةً اسميَّةَ خبرُها محذوف يحيل عليه ” متْنُ النَّصِّ “، ومن النَّاحية الدَّلالية يُقصَد بالمميِّزات السِّماتُ الفنية والمكونات البنيوية التي تهيكل هذا الجنس الأدبي ، أمَّا القصَّة القصيرة فجنسُ سرديُّ خاضع في تكوينه لتلك السمات، ويُقصدُ بالاتِّجاهاتِ المدارسُ والتَّيَّاراتُ والمناهج التي تشكل خلفية معرفية وإطارا مرجعيا وقاعدة تصورية يتحرك فوقها هذا المنجز السردي القصير. فإلَى أيِّ حدٍّ يعكسُ العنوانُ مضمُونَ النَّصِّ ؟
بالنظر إلى العنوان وشكل النص الطّباعيّ، وجملةٍ منَ المُشيرات النَّصِّيَّة الدّالة مثل: ” نشأة القصة، حاجة اجتماعية، التعبير الفنّيّ، شعور خاطف، لحظة من عمر الزَّمن، فنٌّ موجَزٌ وسريع، تختلف مناهج القصة القصيرة واتجاهاتها.. “، نفترض أنَّ النَّصَّ مقالة أدبيّةٍ نقدية تعرف بفنِّ القصَّةِ القصيرة وتستعرض أهمِّ خصائصه وأبرز تياراته. فإِلى أيِّ حدٍّ تصحُّ هذه الفرضيّة ؟ وبأي طريقة صاغ الكاتب أبعادها؟
تكثيف معاني النص
عالج الكاتبُ قضيَّةً رئيسيَّةً تبرزِ خصائص القصَّة القصيرة وتيَّاراتها، وقد تفرَّعت عن هذه القضيَّةِ قضايا صغرى متصلة بها، هي:
- علاقةِ القِصَّة بالمرجع (المُبْدِعِ ، المجتمع) باعتبارها إفرازا اجتماعيا أول ظهورها وتمثيلا فنِّيا بعد ذلك.
- صعوبة المقاربة النَّقدِيِّة للقصَّةِ القصيرةِ لضحالة المتوفر النقدي والاصطلاحي بسبب حداثة ظهورها وعدم اتضاح ملامحها بعد.
- حجم القصَّة القصيرةِ وإشكال التلقي حيث حصره النقاد حصرا زمنيا محددا غالبا في ساعة من القراءة تزيد أو تنقص قليلا.
- اقترانها بالوظيفةُ الاجتماعيَّةُ المعْنَية بإشكالاتِ المُجْتَمَعِ وهُمومِه، الَساعية إلى إلى القضاءِ على أمْراضِهِ وأخطائِه.
- التطوُّرِ الفَنِّيِّ ممثلا في عناية كتَّابُها بالجانب الجمالِيِّ والشَّكْلَيِّ إلى جانب عنايَتِهم بالمضمونِ.
- تيَّاراتِ القصَّة القصيرةِ في سيرورة تطورها من الاعتناء بالحادثة، إلى الاهتمام بالشخصية، إلى التركيز على الشعور واللاشعور، إلى الاحتفال بالفكرة المادية أو الرمزية أو الأسطورية .
- تنصيص الناقد على سعي كاتب القصة القصيرة دائما إلى تجاوز النمذجة وتجاوز الواقع وتجاوز ذاته أيضا.
تحليل النص
الإشكالية المطروحة
طرح الكاتب إشكالية تجنيس القصة القصيرة من حيث ماهيتها فذكر أنها عرفت في تعاقبها الجمالي والكرنولوجي أربع مراحل فنية هي مرحلة التأسيس ومرحلة التجريب ومرحلة التأصيل ثم مرحلة التجنيس فينبني فن القصة القصيرة على شعرية الصورة البلاغية والتركيب الشاعري والدرامي السردي واستغلال بلاغة الانزياح واستخدام الذاكرة ومخاطبة الذهن وتنويع الأزمنة السردية والصياغات الأسلوبية واللغوية ومن أهم القضايا الدلالية التي تطرقت إليها القصة القضايا السياسية والاجتماعية والهموم المحلية والوطنية والقومية.
المفاهيم والقضايا
تضمن النص العديد من المفاهيم النقدية والاجتماعية، نذكر منها العلوم الألسنية يعود تاريخها إلى القرن 20م، وهو علم يرتكز على الأسس العلمية المبنية على التجربة والملاحظة والاستنتاج مع ربطها بالعلوم الأخرى مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، وهو علم أصبح يهتم به جميع الأدباء والكتاب من شعراء وقاصون.
المصطلح النقدي للقصة القصيرة : تشكلت ملامحه لدى النقاد منذ أكثر من خمسة عقود أوتزيد، فالنقاد اصطلحوا على تسمية القصة الطويلة بالرواية وعندما تعددت أجزاؤها سموها الرواية الملحمية ثم أطلت علينا مؤخرا أنواع جديدة من القصة أطلق عليها النقاد بأسماء القصة القصيرة جدا، القصة الوميضة، القصة الصورة، القصة الخاطرة. تلقي القصة القصيرة ووظيفتها الاجتماعية إنها ترفض القارئ الذي يقرؤها قراءة سطحية وتتصالح مع القارئ الذي يتجاوز قراءة السطور محاولة التفسير والفهم وأخذ المعنى الضمني، وعندها تكون القراءة عبارة عن حوار ممتع بين القارئ والقصة من أجل إعطاء معان متعددة من خلال التأويل.
طرائق العرض
ينوِّعُ الكاتب في طرائق عرْضِ محمولاته الفكرتِة وأساليب صياغتها، مركزا على أساليبِ التَّفْسيرِ عامة ومنها: التَّعريفَ لبيانِ خصائِصِ المُعَرَّفِ للقارئِ، ومن ذلك قوله في تعريف القصة : “هي شعورٌ خاطفٌ ولحظة من عمر الزمن ..، والقصة القصيرة فنٌّ دراميٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوار والسّرد… “، وإلى جانبِ التَّعريفِ اتكأ الكاتب على الوَصْفلملاحقة تفاصيل التصور الذي يعرضه واستكمال الكفاية التفسيرية الملائمة للموقف النقدي، من ذلك قوله : ” وهو فنَّانٌ شديد الفرديَّة، يتلقى الحياة بحساسية خاصة…”، واهتم أيضا بشكل واف بالسرد ووظيفة الإخبارية الطاغية لتوفير كتل المفهومات اللازمة لإضاءة القضية الرئيسية للنص، والمسعفة في حمل المتلقي على الاقتناع بالتصور المبسوط أمامه، ومنه ” والقصة القصيرة تعرفُنا بشيء نعرفُه مسبَقاً، ونعيده يوميّاً، وهي تعرضُه في شكلِ لقطةٍ أو جزئيَّة ما، أو فكرةٍ محددة “، ورابعُ أساليب التفسير الموظفةُ في النَّصِّ هي المقارنة حيثُ يعرض الكاتبُ لأشكال التَّداخُلِ بين فنَّيْ القصة القصيرة والشِّعر في خاصية “الكثافة الشعريَّة” التي ترتهن إلى اللمح والإشارة والترميز واللفظ القليل المشع بأفق رحب من الدلالات والإيحاأت، و بين الرِّواية والقصَّة القصيرة في التَّعبير عن الحياة الاِجتماعية والانبناء عَلَى “السَّرد والحوار والوصف”. وقد أدَّتْ الطرائق مجتمعةً دوراً أساسيا في تدعيم فِكرةِ الناقد وتمتين بنيتها المنطقية لإقناع المتلقي بفاعليةِ هذا الفنِّ الجديدِ على التَّعبيرِ عنِ المجتمعِ ومعالجةِ اختلالاته، وفي ارواء التعطش الوجداني والجمالي لمتلق حاصرته تعقيدات المجتمع الحديث.
أما بخصوص السَّيرورة الحِجاجيَّةَ فقدِ توسل الكاتبُ بالأسلوب الاستنباطِيَّ في بناء مدخلاته ومخرجاته المنطقية، فانتقل منَ العامِّ إلى الخاصِّ ومن الكلِّ إلى الجزءِ؛ واستهل النَّصَّ بالإشارة إلى نشأة القصّةِ القصيرةِ ثم انْتَقل بعدَ ذلك إلى رصْد خصائصها ومُجملِ تيَّاراتها ووظائفها، وإلى جانب الأسلوبِ الاستنباطيِّ عوّل الكاتبُ على أسلوبَ الجرْدِ والاستقصاء فيما يشبه الاستقراء فاستعرض مكوِّناتها من لغةٍ وأسلوبٍ وسردٍ وحوارٍ وحدود ووظيفةٍ وعلاقة بأشكال إبداعية أخرى، ويكمُن دوْر هذين الأسلوبين في استيفاء تفاصيل الظاهرة المرصودة ، وتوضيح أبعاد المعروض المنطقي ومحاصرة احتمالات الالتباس وسوء الفهم التي قد تعرض للمتلقي.
نجح الكاتبُ إذن في نصِّه في تعريفِ القصَّةِ القصيرةِ وعرض ملابساتِ نشأتها، ورصد جملة من خصائصها وتياراتِها دونَ أن يهمل الإِشارة إلى وظيفتها وصعوبات مقاربتها، وقدْ قصد ذلك بيانِ قدرةِ القصَّة القصيرة على نقْدِ المجتمعِ منتصِراً لهَا على حساب الرِّوايةِ، واستخدَم من أجل ذلك أساليب توزعت بيْنَ اللُّغةِ العلميَّةِ النقدية الواصفة المشبعة بمصطلحات تحيل إلى مجلات الكتابة الأدبية والممارسة النقدية ونظريات التلقي والمجتمع والمبدع وبين الجُمَلِ الطَّويلةِ الإخبارية بنفسها التقريري والتفسيري ، وبين طرائقِ العرضِ المختلفةِ من تعريفٍ وسردٍ ومقارنة ، إضافةً إلى الرَّوابط اللغوية والمنطقية التي أسهمت في إحكام الانسجام التركيبي والدَّلالِيِّ والعُضويِّ بين مكوِّناتِ المقالةِ واتساق بنياتها المختلفة المحيلة إلى أطر مرجعية متعددة ومفاهيم متنوعة مرتبطة بالإبداع والمبدع والمتلقي والسياق. كلُّ ذلك ساعَدَ الكاتبَ في عرْضِ فكرتِه ومناقشَتِها.
تركيب وتقويم
بناءً على ما سبق نستطيع أن نقول إنه بات بوسعنا اعتقاد صحة الفرضية التي انطلقنا منها في بداية تفكيكنا لهذا النص، وهي كونه ينتمي إلى جنس المقالة النقدية الأدبية التي تثير إشكالات جوهرية مرتبطة بماهية القصة القصيرة وسماتها المميزة ووظائفها الموزعة بين الانشغال بالهاجس الاجتماعي والرهان الجمالي. ونعتقد أن الكاتب كان موفقا إلى حد كبير في انحيازه إلى هذا الجنس الأدبي الأكثر انتشارا في العصر الحديث، غير أننا لا نوافقه في كون القصة القصيرة وحدها تمتلك مفاتيح نقد الواقع وتصحيح اختلالاته، لأن وظيفة كهذه تحتاج إلى تضافر كل الفنون التعبيرية.