اقرا ايضا
تقديم
يرتبط مفهوم الحقيقة بالمعرفة كفاعلية إنسانية تتحدد من خلالها علاقة الإنسان بذاته وبغيره وبالعالم، ويتحدد مجالها الإشكالي بسعي الإنسان إلى اكتشاف ذاته والغير والعالم وفتح مغاليقها وإزاحة ما أشكل عليه فيها، من هنا يفتح مفهوم الحقيقة على مشكل طرقها ومعاييرها وغاياتها وقيمتها.
- ما علاقة الحقيقة بالرأي؟
- هل الحقيقة معطاة أم أنها بناء؟
- ما هو سبيل بلوغها؟
- ما علاقة الإنسان بالحقيقة؟
- ما قيمة الحقيقة ولماذا نرغب فيها؟
- وهل الحقيقة منفصلة عن أضدادها كاللاحقيقة والوهم؟
المحور الأول: الرأي والحقيقة
عادة ما تنادي الفلسفات ومنذ اليونان أن طريق الحقيقة مفارق لعالم الحس والرأي، فأفلاطون يرى أن عالم الحقيقة هو عالم المثل، وسقراط يوصي بعدم الاستكانة إلى العادة والتقليد والحس المشترك، فما تعتقد الجماعة أنه حقيقي لا يعني بالضرورة أنه كذلك، فالحكم إذن هو العقل، على خلاف ذلك، هناك من يرى أن الحقيقة ليست حكرا على العقل وحده، ف"بليز باسكال" يعتبر أن العقل لا يمكنه احتكار الحقيقة، لأن هناك طرقا أخرى لمعرفتها، منها القلب أو العاطفة أو الرأي، فإذا كان العقل أداة لمعرفة القضايا عن طريق البرهنة والاستدلال العقليين، فإن القلب أداة لإدراك المبادئ الأولى عن طريق الشعور والحدس، ويشير القلب عند "بليز باسكال" إلى قوة الإدراك المباشر للحقائق، فالمبادئ هي الحقائق الأولى التي يتعذر الوصول إليها بالاستدلال العقلي كالمكان والزمان والحركة والأعداد ،... وعليها يستند العقل لتأسيس قضاياه وخطابه بكامله، إننا نشعر بالمبادئ أما القضايا فنستخلص بعضها من بعض عن طريق الاستدلال العقلي، ولكل منهما نفس اليقين وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه، في مقابل هذا الطرح يرى الإبستملوجي الفرنسي غاستون باشلار أن العلم يتعارض مع الرأي، فالحقيقة العلمية لا ينبغي أن تأسس على الرأي لأن الرأي تفكير سيئ بل إنه لا يفكر البتة، إنه يربط المعرفة بالمنفعة، ويترجم الحاجات إلى معارف، إن الرأي عائق ابستملوجي ينبغي هدمه وتخطيه وإحداث قطيعة إبستملوجية معه.
استنتاج
يمكن أن نستنتج أن هناك مفارقة بين الحقيقة والرأي، فقد يبدو الرأي هشا على اعتبار أنه حقيقة خاصة مرتبطة بشخص أو اعتقاد صادر عن الوجدان أو العاطفة أو القلب، وفي المقابل نعتقد أن الحقيقة تكون صلبة حينما تصدر عن العقل، لكن ألا يكون الرأي أكثر صلابة من الحقيقة؟ ألا نؤمن ونركن لما يصدر عن القلب والوجدان أكثر مما نرتاح لما يصدر عن العقل؟ ألا يكون العقل عاجزا عن معرفة كل شيء؟
المحور الثاني: معايير الحقيقة
- على ماذا يمكن أن تتأسس الحقيقة؟
- ما معيار صدقها وصلاحيتها؟
- ومن أين تستمد الحقيقة قوتها؟
يعتبر روني ديكارت أن الأفعال العقلية التي تمكن من بلوغ الحقيقة هما الحدس والاستنباط، ويعني الحدس في نظره إدراكا عقليا بسيطا يصدر عن عقل خالص ويقض، لا يبقى معه أدنى شك، أما الاستنباط فهو مصدر غير مباشر لإدراك الحقائق يتم من خلاله استنتاج حقائق جديدة من حقائق أولى معلومة من قبل وإن لم تكن بديهية، فالاستنباط يضمن الترابط الضروري بين الحقائق الأولى والنتائج، لذا يربط ديكارت قواعد المنهج بالحدس والاستنباط، فالبداهة ترتبط بالحدس، أما التحليل والتركيب والمراجعة فترتبط بالاستنباط.
استنتاج
نستنتج أن إدراك الحقيقة يتم بواسطة الحدس أولا ثم الاستنباط ثانيا، لأنهما فعلان لفحص الحقائق وتمييزها عن الأخطاء، بل هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة.
أما الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا فيرى أن الحقيقة معيار ذاتها ولا تحتاج لأي شيء خارج عنها، إنها بديهية واضحة تفرض نفسها بوضوحها التام، على النظر ولا يمكن حجبها، إنها في نظر اسبينوزا كالنور بها ينقشع الظلام، وهي بذلك لا تحتاج إلى ما يكشفها أو يؤكدها، ومن ثمة فهي التي تكشف وتضيء جميع الأفكار.
إذا كانت الحقيقة تستهدف بلوغ اليقين والإقناع وفرض سلطتها المعرفية، فإن ذلك يطرح مشكل معاييرها وسبل تحقيقها لذلك، فهل تكون كذلك لكونها حدسية أم عقلية أم واقعية، ويتضح من خلال ما سبق أن معيار الحقيقة يتمثل في انسجام الفكر مع ذاته ومع مبادئه من منظور عقلاني، أما الاتجاهات التجريبية فيكون معيارها لديها مدى مطابقتها للواقع.
المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة
- ما قيمة الحقيقة؟
- هل تستمد قيمتها الفلسفية من ذاتها كحقيقة أم من خلال أضدادها كالتيه والخطأ والوهم؟
- أليست للحقيقة قيمة نفعية؟
ينتقد هايدجر التصور التقليدي للحقيقة لأنه يتأسس على مفهوم المطابقة،إنها في نظره تتمثل في العلاقة الاشهادية بين الحكم والشيء، فالحكم يشهد ويحضر الشيء أمامنا باعتباره موضوعا، وتنبثق الحقيقة باعتبارها انكشافا للموجود أمام فكر منفتح عليه، ويدل الكشف من هذا المنظور عن نسيان ونفي للخفاء، وتكون الحقيقة كانكشاف مشروطة بالذات وحريتها، وإذا كان الأمر كذلك وبما أن الذات تتحدد من خلال وجودها مع الغير، أي من خلال الوجود الزائف الذي يخلقه "الوجود ـ مع ـ الغير"، وهذا الوجود هو نسيان للموجود وانصراف إلى ما هو أكثر رواجا، فإن الحقيقة تكون مشروطة باللاحقيقة والتيه، باعتبار التيه هو ميدان نسيان الوجود.
استنتاج
نستنتج أن الإنسان لا يقيم في الحقيقة فقط، بل يقيم في اللاحقيقة وفي التيه كذلك، من هنا لا يمكن للحقيقة أن تشتغل في معزل عن اللاحقيقة، أي أن الحقيقة ليست قيمة مطلقة وليست لها ماهية خاصة معزولة عن ضدها وهو التيه، من منطلقات فلسفية مغايرة يربط "إريك فايل" بين الحقيقة والخطاب، فمشكل الحقيقة لا يمكن اختزاله في مطابقة الفكر للواقع ليكون الخطأ، بالتالي تعبيرا عن عدم المطابقة بينهما إن مشكل الحقيقة في نظر فايل هو مطابقة الإنسان مع الفكر، ذلك من خلال بناء خطاب متماسك عقلاني يؤسس المعنى وينفي العنف، إن الوعي الصحيح إذن لا يتحدد في امتلاك الحقيقة بل في الفعل وفهم الفعل، وقيمة الحقيقة لا تتحدد في تجاوز الخطأ واللامعنى بل في إلغاء العنف لصالح المعنى.
خلاصة عامة
يتضح من خلال ما سبق أن الحقيقة مفهوم إشكالي يحيل على تفكير الإنسان في ذاته وفي العالم والغير، ومن جهة أخرى تحيل الحقيقة كغاية للمعرفة البشرية على مفاهيم محايدة لها كالرأي والقلب ،... كما يحيل التفكير في الحقيقة على مشكل معاييرها، فبقدر ما يطرح الحدس والاستنباط العقلي كأسس لها، بقدر ما يعتبر البعض أنها معيار ذاتها، وأخيرا تحيل الحقيقة كقيمة على التوتر الأنطلوجي بينها وبين أضدادها كاللاحقيقة والتيه والوهم والخطأ والعنف ...
خلاصة المجزوءة
يتأسس الوجود البشري على نشاط عقلي منتج للمعرفة، وجود لا يتوقف عند وعيه بذاته وبالعالم وبالغير، بل يحاول فهم وتفسير ذاته وغيره والعالم، وغايته في ذلك بلوغ الحقيقة والمعرفة باعتبارها فعالية إنسانية تتميز من جهة بالموضوعية حين تحاول التعامل مع الواقع ومع الظواهر الإنسانية بمناهج اختبارية تتأسس على التجريب والصياغة الرياضية، ومن جهة ثانية تتميز بحضور الذات وتجاوز الموضوعية، بحيث لا ينصت العالم للطبيعة بل يسائلها ويستنطقها من خلال اعتماد فروض وكيانات من إنتاج الذات، وإذا كانت الحقيقة في الأولى موضوعية مستقلة عن تدخل الذات، تكون في الثانية ذاتية، من هنا يتضح أنه في مجال المعرفة الإنسانية يصعب وضع خط فاصل بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، ومن ثمة تفترض المعرفة البشرية مقاربة مفتوحة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، العقلي والواقعي، الحقيقي واللاحقيقي، النظري والتجريبي ...