اقرا ايضا
تحتوي مسرحية " ابن الرومي في مدن الصفيح" سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع.
يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة.لكن المسؤول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول مادام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل, وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلا من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها جاهدين، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية.
ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته، ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين سيقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل. بعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبربحكاياها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار، قريبة كانت أو بعيدة، بكل تناقضاتها الحياتية.
وينتقل الكاتب من الخيال، ومن لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية ذات الأحياء الصفيحية حيث نلتقي بسكانها ولاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة وضغوطات الواقع التي لا تتوقف. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي الذي لا يناسبهم إلى فنادق سياحية جميلة تجذب السياح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما يجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم في أحسن الظروف. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم من فوق، وهو لا يخدمهم لا من قريب ولا من بعيد. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة، إذ يدل حمدان على الحمد وسعدان على السعادة و رضوان على الرضى على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.
ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله الصغار لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الفنطاستيكية وشخصياته التاريخية والأسطورية؛ لكن هذه الحكايات والقصص لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم. لأنها حسب دنيازاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيازاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويطرح همومهم، أي: أن يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة، كما يكون ابن الرومي الشاعر المثقف قناعا لكل المثقفين المعاصرين.
بعد ذلك، ينقلنا ابن دنيال عبر صور خيال الظل وظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية ومنازلها الصفيحية لنجد ابن الرومي منغلقا على نفسه منطويا على ذاته لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته . ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم، وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة، ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء، وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير.كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين.لذا أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه النعم والأفضال من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان، وخاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان، سيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار؛ مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه.
ويتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة، حيث سيشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي، وهدم أكواخه التي يعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس وبناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم.
ويستمر ابن الرومي في تطيره ونحسه حيث لا يفتح الباب مطلقا ليعرف ماذا وراء عالمه الداخلي المقفل؛ بل كان يطل على الواقع الموضوعي من ثقب صغير في الباب، وكان لا يرى من بغداد سوى جيرانه الأشقياء التعساء، فيزداد تشاؤما إلى تشاؤم، وتسود الحياة في وجهه لولا الحب الذي تغدقه عليه جاريته الحسناء والأحلام اللذيذة التي تسعده في منامه ويقظته.
وينتقل ابن الرومي كما قدمه الراوي من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم مستلب ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه، يركب السحاب وهو عالق بالتراب في كوخه الحقير، يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويحسون بمعاناته أيما إحساس.